بقلم: فضيلة الإمام الأكبر د. محمد سيد طنطاوي/ شيخ الأزهر الشريف : يواصل القرآن الكريم قصة ملكة سبأ يقص علينا ماحدث بين سليمان ـ عليه السلام ـ وبين جنوده من محاورات ومن مطالب طلبها سليمان ـ عليه السلام ـ من جنوده فقال تعالي:[ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم] الآيات:38 ـ40 من سورة النمل.
قال الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ وحين رجع رسل ملكة سبأ إليها, وأخبروها بما قاله سليمان لهم.. قالت: قد عرفت أنه ليس بملك وما لنا به من طاقة, وبعثت إلي سليمان ـ عليه السلام ـ إني قادمة إليك بملوك قومي لأنظر في أمرك وماتدعونا إليه من دينك, ثم توجهت إليه في اثني عشر ألف رجل من أشراف قومها ـ بعد أن أقفلت الأبواب علي عرشها ـ فجعل سليمان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة, حتي إذا دنت من حدود مملكته جمع من عنده من الإنس والجن ممن تحت يده فقال لهم: أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. ولعل سليمان ـ عليه السلام ـ قد طلب إحضار عرشها ـ من بلاد اليمن إلي فلسطين حيث مقر مملكته بلدة القدس ـ ليطلعها علي عظيم قدرة الله ـ تعالي ـ, وعلي ما أعطاه ـ سبحانه ـ له من ملك عريض, ومن نعم جليلة, ومن قوة خارقة, حيث سخر له الله ـ تعالي ـ من يحضر له عرش تلك الملكة من مكان بعيد في زمن يسير, وقد رد عفريت من الجن علي سليمان ـ عليه السلام ـ بقوله: أنا آتيك بعرش هذه الملكة, قبل أن تقوم من مجلسك هذا, أو قبل أن تقف من جلوسك, وإني علي حمله وإحضاره من تلك الأماكن البعيدة إليك, لقادر علي ذلك بحيث لايثقل حمله علي, ولأمين علي إحضاره دون أن يضيع منه شيء. وكأن سليمان ـ عليه السلام ـ قد استبطأ إحضار عرش تلك الملكة في تلك الفترة التي حددها ذلك المارد القوي الشديد من الجن, فنهض جندي آخر من جنود سليمان, ذكره ووصفه القرآن الكريم بقوله: قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. قال بعض المفسرين: والمراد بالذي عنده علم من الكتاب: آصف بن برخيا, وهو رجل من صلحاء بني إسرائيل أعطاه الله ـ تعالي ـ من لدنه علما واسعا, وكان وزيرا لسليمان. ثم يأتي المشهد الأخير لهذه القصة الزاخرة بالعظات والعبر, فتخبرنا الآيات الكريمة عما فعله سليمان ـ عليه السلام ـ بعرش تلك الملكة, وما قاله لها بعد قدومها إليه, وما انتهي إليه حالها, فقال ـ تعالي ـ:[ قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لايهتدون] الآية:41. أي: قال سليمان لجنوده بعد أن استقر عنده سرير ملكة سبأ الذي تجلس عليه: غيروا سرير هذه الملكة, كأن تجعلوا مؤخرته في مقدمته, وكأن تجعلوا أعلاه أسفله, وافعلوا ذلك لنعرف أتهتدي إلي معرفته بعد هذا التغيير, أم تكون من الذين ليس عندهم الذكاء الكافي لمعرفة حقيقة الشيء بعد تغيير معالمه؟. ثم بين ـ سبحانه ـ ماقالته عندما عرضه عليها سليمان ـ عليه السلام ـ بعد تغيير معالمه فقال ـ تعالي ـ:[ فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين] الآية:42. أي: فلما وصلت ملكة سبأ إلي مجلس سليمان قال لها: أهكذا عرشك؟ أي: أمثل هذا العرش الذي تشاهدينه الآن, عرشك الذي خلفته وراءك في بلادك؟ ولكن هذه الملكة الحكيمة الذكية هداها تفكيرها السليم إلي أن تقول: هذا العرش الذي غيرت معالمه كأنه عرشي الذي تركته من خلفي في بلادي, فهي لم تثبت أنه هو, ولم تنف أنه غيره, وإنما تركت الأمر مبنيا علي الظن والتشبيه, لكي يناسب الجواب السؤال. ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي منعتها من الدخول في الإسلام قبل مجيئها لسليمان ـ عليه السلام ـ فقال ـ تعالي ـ:[وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين] الآية:43. أي: ومنع هذه المرأة العاقلة الحكيمة من الدخول في الإسلام منذ بلوغها سن الرشد, أنها كانت تعيش مع قوم كافرين يعبدون الشمس, فلم يكن في مقدورها إظهار إسلامها بسرعة وهي بينهم. فالجملة الكريمة كأنها اعتذار لها عن سبب تأخرها في الدخول في الإسلام. ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه القصة ببيان ما فاجأها به سليمان ـ عليه السلام ـ لكي تزداد يقينا بوحدانية الله وقدرته, وبعظم النعم التي منحها الله ـ تعالي ـ لنبيه سليمان, فقال ـ تعالي ـ:[قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين] الآية:44 النحل. هذا, ومن الدروس التي نتعلمها من هذه القصة: أن ملكة سبأ كانت من النساء اللائي أعطاهن الله ـ تعالي ـ فطرة نقية, وعقلا واعيا, وقلبا سليما, ونفسا زكية, وبصيرة حكيمة تضع الأمور في مواضعها الصحيحة. فقد أسست ملكها لقومها علي المشورة, وأثرت خلال حكمها لقومها السلام علي الحرب, واللين علي الشدة, والتواضع علي الغرور, مما يدل علي حقن دماء أبناء مملكتها, وعلي نشر الأمن والرخاء في ربوع مملكتها.. وكان عندها الاستعداد الفطري لقبول الحق والاستجابة له, وما أخرها عن المسارعة إليه إلا لكونها كانت من قوم كافرين يعبدون الشمس.. وعندما التقت بسليمان, وانكشفت لها الحقائق بادرت إلي الدخول في الدين الحق, وقالت:.. رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين فرضي الله عنها وأرضاها.
لا تنسونا من الردود ROOUO